طالب همّاش ....مائيّةُ الليلِ البيضاء
يا قديسَ النورِ الطالعَ من فوق سطوحِ
الدورْ !
كالنهدِ المتلألىءِ أبيضَ تحت سماوات من بلّورْ ..
رُشَّ على القلبِ الأعمى قطراتِ النورِ
المُسكر ِكالرمانْ !
كي يتطهّرَ في بركةِ ضوءٍ ورديٍّ
كالكروانْ .
أنرِ العقلَ المظلمَ
كي يشربَ من منبعكَ الصافي
أيّلُكَ الظمآنْ !
فأنا مولودُ العتماتِ الأعمى
وصغيرُ الموت
أدقُّ على بابِ الفجرِ
: لقد طالَ الليل ُ
أفيقي يا شمسَ النساك
لأرفعَ نفسي كرضيعٍ
نحو قناديلِ الصبح ِالسكرانْ !
ما أجملَ أن يهطلَ في الصبح ِحليبُ الغيمِ
على الأشجارِ الرضّع ِفي البستانْ !
وتفيضَ عيون ُالماء سكارى
وتطيرَ الطيرُ رفوفاً وفرادى ..
فطواويسُ لقاحٍ ،
وإناثُ بلابلَ زرقاءُ ،
وسربُ حساسينَ ذكورْ .
يا قمر َ الليلِ الساكنِ بين كنائسِ نورْ !
يا رؤيا نفسي المتصوّفةِ العمياءِ ،
وريَّ الروحِ العطشى ، ونميرَ الظمآنْ !
أذبِ الروحَ الباكيةَ الثكلى..
ذاتِ الحزنِ الصافي
كالنسماتِ الريحانيّةِ فوق ملامسِ أزهار ِ
اللوزِ
أذبها !..
صَيِّرْهَا ماء ًلتسيلَ كحبرٍ أعمى
في أوقيانوسِ النورْ !
فانا لستُ سوى كوخٍ مهجورٍ في الليلِ
البائسِ
يسكنُ قلبي
مرفوعاً فوق ظلامِ الليلِ مسيحٌ مصلوبٌ
وبقربي ترقدُ يائسةً روحُ الإنسانْ !
مالي غيرُ نحيبٍ مقطوفٍ من ندمي الأسودِ
يغتصبُ الحزنَ الضائعَ في الروحِ
وناياتي أوتارٌ تهتزُّ على صوتِ غرابْ .
منذ زمانٍ وأنا أستقبلُ أغراباً
وأودّع أغرابْ .
منذ زمانٍ وأنا أفتحُ أبواباً مغلقةً في الليل
وأغلقُ خلف جثامينِ الوحشةِ أبوابْ !
لا ( أحداً ) يجلسُ قربي في أعمقِ ساعاتِ الصمتِ
سوى أنصابِ العزلةِ والغيّابْ !
ما لي امرأةٌ
بيضاءُ ترائيني
لأقول لها : يا بيضاءْ !
أيّ سماءٍ مزهرةٍ تتشعشعُ دامعةَ العينينِ على مرآكِ المسكرِ ،
أيّ ضياءٍ ضاحٍ يتقطّرُ من نهدِ سماءٍ عذراءْ ؟
ما أجملَ أن تتساقطَ من كفّيكِ
قطراتُ الطلِّ الظمآنِ
على القلبِ
ولا يبلغ حدّ َالإرواءْ !
يا بيضاءْ !
يا ذاتَ الإسمِ الناعمِ كالأضواءْ !
حلّي شلاّلَ غدائركِ السوداءِ على صدرِالعاشقِ
كي ينبتَ نرجسَهُ المستاءْ !
يا سلطانةَ هذا الليلِ الآسيانِ
وجدوله ُالجاري في الروحِ
كسلسلةِ الأفراحْ !
أيُّ إوزاتٍ تتلاقى عند حفافي النبعِ
وتسبحُ عاريةً في الأفقِ الفواحْ ؟
أيُّ أصابيعَ تتمتمُ في حزِّ الشهوةِ
عند تلامسِ نهدينِ رضيعينِ ،
تفكفكُ أزرارَ الخضرةِ عن سرِّ التفاحْ ؟
فتذوبُ فيوضُ الليلِ بماءِ اللذّةِ كالصهياءْ .
مالي امرأةٌ لأقولَ لها :
صُبّي فوق الجسدِ العطشانِ ينابيعَ الماءْ !
صُبّي الماءَ وغنّي طاهرةَ الصوتَ
ليغتسلَ القلبُ من البأساءْ !
صوتكِ عصفورٌ مرتعشٌ يهتزُّ على أوتارِ حساسينِ الفجرِ
ويسكرُ بالموسيقى عند ضفافِ الماءْ .
صوتكِ ماءٌ ذابَ على مسمعِ نبعٍ ذوّابٍ ،
ونوافيرٌ دموعٍ باكيةٌ تحت شبابيكِ الغرباءْ .
صوتكِ هزّاتُ مهودٍ تتأرجحُ بالأطفالِ الرُّضع ِفي حقلِ مساءْ .
صوتكِ طيرُ سنونو يبكي خلف سياجِ المغربِ سحنتَهُ السوداءْ !
صوتك سكّينٌ يجرحُ حنجرة َالبلبلِ
في فردوسِ غناءْ .
غنّي لينامَ الزاهدُ في خلواتِ الليلِ
فقد حلَّ الصمتُ
ونامَ الذهنُ المتأمّلُ في الليلِ الأبيضِ شفّافاً
كإناءُ النورْ .
وتلاشى فوق شجيراتِ المغربِ إنشادُ العصفورْ .
يا قمرَ الوردِ المشرقِ من ظلمةِ نورْ ..
إفتحْ بابك َللناسكِ
كي يجلسَ تحت مساءاتِ الحزنِ الزرقاءِ
ويصغي لتلامسِ أجراسِ سكوتِكْ !..
لِيُكَوِّبَ كفّيهِ الضارعتينِ إلى مرآكَ
ككأسينِ صغيرينِ ..
فترتعشانِ بسُكْرٍ أبيضَ
من مروى سَكَرَاتِكْ !
فأنا الصوفيُّ المتزمّلُ بالصمتِ
أشرّعُ شباكي الليليَّ على بحران الظلمات
وأصمتُ ذاكَ الصمتَ الصابي
في ظلِّ صلاتِكْ .
فأرى درباً ذهبياً يمتدُّ بعيداً خلفَ مسافاتِ الغيم
فأشعرُعن يسراي وعن يمنايْ ..
تتهادى كقصاصاتِ الموسيقى الورديةِ
رنّاتُ نواقيسكْ .
لكأنَّ عصافيرَ اللوزِ تزقزقُ في صدري
ويسيلُ حليبيّاً لحنُ الحزنِ الذائبِ في همساتِ النايْ .
فأذنْ يا مولايْ !
للروحِ الثاكلِ
- روحِ الخاطىء -
أن تغرقَ في بُحْرَانِ سكوتكْ !
أن تشربَ من مدمعكَ الماطرِ عينايْ !
شرّعتُ ذراعيَّ أمامَ الفجرِ طويلاً
لا طلعَ الصبحُ
ولا لاحتْ كحمامةِ برٍّ رؤيايْ .
مولايَ أنا منفردٌ في سُكنايْ .
مالي أمٌّ تبكي من نافذةِ المطرِ المذروفِ
لأجثو كيسوعٍ تحت مدامعها
وأبوح بصوت ( أسيانٍ ) يا أمَّايْ !
يا أيُّوبَةَ قلبِ الندمِ الجاثي
كسراجٍ قربَ جراحِ الناسْ !
أأظلُّ أهزُّ سريرَ الناياتِ الناحبةِ النغماتِ
لتغفو الروحُ
فلا تسكتُ أغنيتي
أو يهدأُ للغفوةِ نايْ
يا أمايْ !
صوتُ آذانِ المغربِ يبكي في الأفقِ الصامتِ
ويسيلُ حزيناً رجعُ نواقيسِ القدّاس ْ !
وأنا المنحوتُ كرسمٍ باكٍ فوق نعوشِ الفجرِ ،
يتيمُ الميتمِ ..
من يشعلُ في الآحادِ ضلوعَ الشمعِ لراحةِ نفسي
أو يزرعُ فوقَ ترابِ الميتِ
غصينَ الآسْ ؟
من يسقي روحي الظمآى من منبعهِ الصافي
شُربةَ ماءِ السلوانِ
لأنسى نفسي في أسماءِ سوايْ ؟
يا أمايْ !
يا قنديلَ الحزنِ الدامعِ في ليلِ الغربةِ
قطراتٍ .. قطراتْ !
قطّرْ فوق فؤادي النادمِ
أحزاناً وصلاةْ !
فأنا لم أتسببْ بالحزنِ إلى (أحدٍ )
غير دماغي المتعبِ
ويتيماتي الكلماتْ .
فلماذا تبلوني الأشعارُ وأبلوها
وأنا أبصرُ كلماتي تتألّمُ في نظراتِ الباكينْ ؟
أتكونُ حياتي
حبلَ غسيلٍ مشدودِ بين مغيبينِ غريبينِ
تلوحُ عليهِ ثيابُ أناسٍ مجهولينْ ،
ومناديلُ نساءٍ قدّيساتْ ؟
تشربُ آهاتي الريحُ ، وتذروها كالورقِ الميتِ على مثوايْ !
يا أماي !
حزنكَ شفافٌ ، أصفى من دمعِ العتمةِ ،
عذبٌ وبريءٌ وطهور ْ !
حزنكَ مبخرةٌ تهتزُّ على ساقِ الصمت ِ
فترشحُ عطراً باكٍ ، وأريجَ بخورْ . .
حزنكِ كلماتٌ تتدلّى كمصابيحِ الوحشةِ فوق أماسي النورْ ..
حزنكِ ماءٌ رحمانيٌّ
يهطلُ كالصلواتِ على صدرِ الناسكِ
من قلبِ مسيح ِالنورْ ..
يا مرضعةَ الروحِ لبانَ معاطشِكِِ الناضبِ
دمعةُ ثديٍ هرّتْ فوقَ يديَّ كزهرةِ لوزٍ طاهرةٍ
فبكى الأطفالُ الرضعُ في القلبِ الظمآنْ !
وأنا الكهلُ ، الطفلُ ،
خدينُ العزلةِ ..
حزني طائرُ صيفٍ برّيٍّ
يسبحُ تحتَ سماوات الفجرِ رضيعاً سكرانْ .
عشرون مساءً وأنا أتامّلُ موتي في المرآةِ
فلا هجعَ القبرُ
ولا وقفتْ في وجهي الصلبانْ .
أأظلُّ وحيداً أجلس ُ كالراهبِ في حيدٍ صخريٍّ
وأحدّقُ مكتئباً في أفقِ الخسرانْ ؟
تأفلُ خلفي شمسٌ ميّتةٌ
وأمامي يفغرُ فمهُ الشبحيَّ
ضريحٌ مهجورْ .
يا صاحبَ مصباحِ النور ِالعالي
أسكرْ باصرتي بالرؤيا
وارفُ جراحَ الروحِ بخيطانِ النورْ !
فلقد أظلمتُ وشيّختُ وأدبرتُ
أنا المتألّمُ كالريحِ على الأطلال
أهدهدُ حلماً ميتاً في الظلماءِ ،
وأغمضُ كالغاربِ جفنيَّ إليكْ .
خذني دوريَّاً مرتعشاً ، بردانَ وجوعانَ
لأنقر حبّاتِ الحنطة ِمن أعشابِ يديكْ !
خذني عندَ شيوعِ الظلمة في دنيا الأموات
لأذرف جمراتِ عيوني
في مجمرِ عينيكْ !
ما أجملَ أن تتلامس َعند أفولِ الكونِ الرحمانيِّ
أيادي الناسِ المرفوعةِ بحثا عن لحظة حبٍّ
بأصابيعِ يديكْ !
ما أجملَ أن يتقطَّرَ دمعُكَ في أعيننا
تقطيرَ العسلِ السكرانْ !
وتفتّحَ أزهارُ الشمسِ على قمصانِ الغيمِ
صباحاً ..
وتصيرَ الأرضُ الثكلى قزحاً من ألوانْ !
ما أجملَ أن تتراءى من نافذةِ الحزنِ البيضاءِ
جميلاً كالعصفورْ !
يا قمرَ النور أنرني ،
أنرِ العاشقَ بالنورْ !
أنرِ الأرضَ المظلمةَ العمياءْ
بفيضٍ من مرآكَ ،
ارفعها كالمتألمةِ العذراءِ
إلى ضوءِ سراجكَ لتراكَ ..
وتمسحَ بالكفّينِ مسيلَ الدمعِ الهاطلِ من ينبوعِ أساكْ !
أنرِ الأرضَ الموحشةَ ، القفراءَ
لتهدأ وحشتها تحتَ مراياكَ ،
ويسكتَ في الأفقِ المتعبّدِ
ناقوسُ الندمِ المكسورْ !
واروِ براريها العطشى بحليبِ الصبحِ
المتساقط من حلمات ِالكونِ النوراني
لتلقمَ كالزهراءِ فمَ العاشقِ ثديَ الأملِ الملآنْ !
ما أحزنها..
راقدةٌ في مهدِ الليلِ
ترتّلُ مرثيّتها الأبديّةِ جاثيةً في جذعِ مصلاّك !
.. واقفةً ..باكيةً ..
قدّامَ عذاباتِ المصلوبِ
ترائيها رؤيا مذهلةُ النورِ
فتصرخُ : ما أحلاكْ !
وبراحتها الزيتونيّةِ تلمسُ جرحَ المصلوبِ
فيرتعش الجرحُ
ويجري دمهُ الزاهرُ كالماءِ طهورْ
* * *
يا قديسَ الليلِ السهرانِ على جدولِ نورْ !
يا قمرا يتلألأ كالعنب الدامع تحت عرائشه البلّور !
رُشَّ على القلبِ الأعمى قطراتِ النورْ !
يا قديسَ النورِ الطالعَ من فوق سطوحِ
الدورْ !
كالنهدِ المتلألىءِ أبيضَ تحت سماوات من بلّورْ ..
رُشَّ على القلبِ الأعمى قطراتِ النورِ
المُسكر ِكالرمانْ !
كي يتطهّرَ في بركةِ ضوءٍ ورديٍّ
كالكروانْ .
أنرِ العقلَ المظلمَ
كي يشربَ من منبعكَ الصافي
أيّلُكَ الظمآنْ !
فأنا مولودُ العتماتِ الأعمى
وصغيرُ الموت
أدقُّ على بابِ الفجرِ
: لقد طالَ الليل ُ
أفيقي يا شمسَ النساك
لأرفعَ نفسي كرضيعٍ
نحو قناديلِ الصبح ِالسكرانْ !
ما أجملَ أن يهطلَ في الصبح ِحليبُ الغيمِ
على الأشجارِ الرضّع ِفي البستانْ !
وتفيضَ عيون ُالماء سكارى
وتطيرَ الطيرُ رفوفاً وفرادى ..
فطواويسُ لقاحٍ ،
وإناثُ بلابلَ زرقاءُ ،
وسربُ حساسينَ ذكورْ .
يا قمر َ الليلِ الساكنِ بين كنائسِ نورْ !
يا رؤيا نفسي المتصوّفةِ العمياءِ ،
وريَّ الروحِ العطشى ، ونميرَ الظمآنْ !
أذبِ الروحَ الباكيةَ الثكلى..
ذاتِ الحزنِ الصافي
كالنسماتِ الريحانيّةِ فوق ملامسِ أزهار ِ
اللوزِ
أذبها !..
صَيِّرْهَا ماء ًلتسيلَ كحبرٍ أعمى
في أوقيانوسِ النورْ !
فانا لستُ سوى كوخٍ مهجورٍ في الليلِ
البائسِ
يسكنُ قلبي
مرفوعاً فوق ظلامِ الليلِ مسيحٌ مصلوبٌ
وبقربي ترقدُ يائسةً روحُ الإنسانْ !
مالي غيرُ نحيبٍ مقطوفٍ من ندمي الأسودِ
يغتصبُ الحزنَ الضائعَ في الروحِ
وناياتي أوتارٌ تهتزُّ على صوتِ غرابْ .
منذ زمانٍ وأنا أستقبلُ أغراباً
وأودّع أغرابْ .
منذ زمانٍ وأنا أفتحُ أبواباً مغلقةً في الليل
وأغلقُ خلف جثامينِ الوحشةِ أبوابْ !
لا ( أحداً ) يجلسُ قربي في أعمقِ ساعاتِ الصمتِ
سوى أنصابِ العزلةِ والغيّابْ !
ما لي امرأةٌ
بيضاءُ ترائيني
لأقول لها : يا بيضاءْ !
أيّ سماءٍ مزهرةٍ تتشعشعُ دامعةَ العينينِ على مرآكِ المسكرِ ،
أيّ ضياءٍ ضاحٍ يتقطّرُ من نهدِ سماءٍ عذراءْ ؟
ما أجملَ أن تتساقطَ من كفّيكِ
قطراتُ الطلِّ الظمآنِ
على القلبِ
ولا يبلغ حدّ َالإرواءْ !
يا بيضاءْ !
يا ذاتَ الإسمِ الناعمِ كالأضواءْ !
حلّي شلاّلَ غدائركِ السوداءِ على صدرِالعاشقِ
كي ينبتَ نرجسَهُ المستاءْ !
يا سلطانةَ هذا الليلِ الآسيانِ
وجدوله ُالجاري في الروحِ
كسلسلةِ الأفراحْ !
أيُّ إوزاتٍ تتلاقى عند حفافي النبعِ
وتسبحُ عاريةً في الأفقِ الفواحْ ؟
أيُّ أصابيعَ تتمتمُ في حزِّ الشهوةِ
عند تلامسِ نهدينِ رضيعينِ ،
تفكفكُ أزرارَ الخضرةِ عن سرِّ التفاحْ ؟
فتذوبُ فيوضُ الليلِ بماءِ اللذّةِ كالصهياءْ .
مالي امرأةٌ لأقولَ لها :
صُبّي فوق الجسدِ العطشانِ ينابيعَ الماءْ !
صُبّي الماءَ وغنّي طاهرةَ الصوتَ
ليغتسلَ القلبُ من البأساءْ !
صوتكِ عصفورٌ مرتعشٌ يهتزُّ على أوتارِ حساسينِ الفجرِ
ويسكرُ بالموسيقى عند ضفافِ الماءْ .
صوتكِ ماءٌ ذابَ على مسمعِ نبعٍ ذوّابٍ ،
ونوافيرٌ دموعٍ باكيةٌ تحت شبابيكِ الغرباءْ .
صوتكِ هزّاتُ مهودٍ تتأرجحُ بالأطفالِ الرُّضع ِفي حقلِ مساءْ .
صوتكِ طيرُ سنونو يبكي خلف سياجِ المغربِ سحنتَهُ السوداءْ !
صوتك سكّينٌ يجرحُ حنجرة َالبلبلِ
في فردوسِ غناءْ .
غنّي لينامَ الزاهدُ في خلواتِ الليلِ
فقد حلَّ الصمتُ
ونامَ الذهنُ المتأمّلُ في الليلِ الأبيضِ شفّافاً
كإناءُ النورْ .
وتلاشى فوق شجيراتِ المغربِ إنشادُ العصفورْ .
يا قمرَ الوردِ المشرقِ من ظلمةِ نورْ ..
إفتحْ بابك َللناسكِ
كي يجلسَ تحت مساءاتِ الحزنِ الزرقاءِ
ويصغي لتلامسِ أجراسِ سكوتِكْ !..
لِيُكَوِّبَ كفّيهِ الضارعتينِ إلى مرآكَ
ككأسينِ صغيرينِ ..
فترتعشانِ بسُكْرٍ أبيضَ
من مروى سَكَرَاتِكْ !
فأنا الصوفيُّ المتزمّلُ بالصمتِ
أشرّعُ شباكي الليليَّ على بحران الظلمات
وأصمتُ ذاكَ الصمتَ الصابي
في ظلِّ صلاتِكْ .
فأرى درباً ذهبياً يمتدُّ بعيداً خلفَ مسافاتِ الغيم
فأشعرُعن يسراي وعن يمنايْ ..
تتهادى كقصاصاتِ الموسيقى الورديةِ
رنّاتُ نواقيسكْ .
لكأنَّ عصافيرَ اللوزِ تزقزقُ في صدري
ويسيلُ حليبيّاً لحنُ الحزنِ الذائبِ في همساتِ النايْ .
فأذنْ يا مولايْ !
للروحِ الثاكلِ
- روحِ الخاطىء -
أن تغرقَ في بُحْرَانِ سكوتكْ !
أن تشربَ من مدمعكَ الماطرِ عينايْ !
شرّعتُ ذراعيَّ أمامَ الفجرِ طويلاً
لا طلعَ الصبحُ
ولا لاحتْ كحمامةِ برٍّ رؤيايْ .
مولايَ أنا منفردٌ في سُكنايْ .
مالي أمٌّ تبكي من نافذةِ المطرِ المذروفِ
لأجثو كيسوعٍ تحت مدامعها
وأبوح بصوت ( أسيانٍ ) يا أمَّايْ !
يا أيُّوبَةَ قلبِ الندمِ الجاثي
كسراجٍ قربَ جراحِ الناسْ !
أأظلُّ أهزُّ سريرَ الناياتِ الناحبةِ النغماتِ
لتغفو الروحُ
فلا تسكتُ أغنيتي
أو يهدأُ للغفوةِ نايْ
يا أمايْ !
صوتُ آذانِ المغربِ يبكي في الأفقِ الصامتِ
ويسيلُ حزيناً رجعُ نواقيسِ القدّاس ْ !
وأنا المنحوتُ كرسمٍ باكٍ فوق نعوشِ الفجرِ ،
يتيمُ الميتمِ ..
من يشعلُ في الآحادِ ضلوعَ الشمعِ لراحةِ نفسي
أو يزرعُ فوقَ ترابِ الميتِ
غصينَ الآسْ ؟
من يسقي روحي الظمآى من منبعهِ الصافي
شُربةَ ماءِ السلوانِ
لأنسى نفسي في أسماءِ سوايْ ؟
يا أمايْ !
يا قنديلَ الحزنِ الدامعِ في ليلِ الغربةِ
قطراتٍ .. قطراتْ !
قطّرْ فوق فؤادي النادمِ
أحزاناً وصلاةْ !
فأنا لم أتسببْ بالحزنِ إلى (أحدٍ )
غير دماغي المتعبِ
ويتيماتي الكلماتْ .
فلماذا تبلوني الأشعارُ وأبلوها
وأنا أبصرُ كلماتي تتألّمُ في نظراتِ الباكينْ ؟
أتكونُ حياتي
حبلَ غسيلٍ مشدودِ بين مغيبينِ غريبينِ
تلوحُ عليهِ ثيابُ أناسٍ مجهولينْ ،
ومناديلُ نساءٍ قدّيساتْ ؟
تشربُ آهاتي الريحُ ، وتذروها كالورقِ الميتِ على مثوايْ !
يا أماي !
حزنكَ شفافٌ ، أصفى من دمعِ العتمةِ ،
عذبٌ وبريءٌ وطهور ْ !
حزنكَ مبخرةٌ تهتزُّ على ساقِ الصمت ِ
فترشحُ عطراً باكٍ ، وأريجَ بخورْ . .
حزنكِ كلماتٌ تتدلّى كمصابيحِ الوحشةِ فوق أماسي النورْ ..
حزنكِ ماءٌ رحمانيٌّ
يهطلُ كالصلواتِ على صدرِ الناسكِ
من قلبِ مسيح ِالنورْ ..
يا مرضعةَ الروحِ لبانَ معاطشِكِِ الناضبِ
دمعةُ ثديٍ هرّتْ فوقَ يديَّ كزهرةِ لوزٍ طاهرةٍ
فبكى الأطفالُ الرضعُ في القلبِ الظمآنْ !
وأنا الكهلُ ، الطفلُ ،
خدينُ العزلةِ ..
حزني طائرُ صيفٍ برّيٍّ
يسبحُ تحتَ سماوات الفجرِ رضيعاً سكرانْ .
عشرون مساءً وأنا أتامّلُ موتي في المرآةِ
فلا هجعَ القبرُ
ولا وقفتْ في وجهي الصلبانْ .
أأظلُّ وحيداً أجلس ُ كالراهبِ في حيدٍ صخريٍّ
وأحدّقُ مكتئباً في أفقِ الخسرانْ ؟
تأفلُ خلفي شمسٌ ميّتةٌ
وأمامي يفغرُ فمهُ الشبحيَّ
ضريحٌ مهجورْ .
يا صاحبَ مصباحِ النور ِالعالي
أسكرْ باصرتي بالرؤيا
وارفُ جراحَ الروحِ بخيطانِ النورْ !
فلقد أظلمتُ وشيّختُ وأدبرتُ
أنا المتألّمُ كالريحِ على الأطلال
أهدهدُ حلماً ميتاً في الظلماءِ ،
وأغمضُ كالغاربِ جفنيَّ إليكْ .
خذني دوريَّاً مرتعشاً ، بردانَ وجوعانَ
لأنقر حبّاتِ الحنطة ِمن أعشابِ يديكْ !
خذني عندَ شيوعِ الظلمة في دنيا الأموات
لأذرف جمراتِ عيوني
في مجمرِ عينيكْ !
ما أجملَ أن تتلامس َعند أفولِ الكونِ الرحمانيِّ
أيادي الناسِ المرفوعةِ بحثا عن لحظة حبٍّ
بأصابيعِ يديكْ !
ما أجملَ أن يتقطَّرَ دمعُكَ في أعيننا
تقطيرَ العسلِ السكرانْ !
وتفتّحَ أزهارُ الشمسِ على قمصانِ الغيمِ
صباحاً ..
وتصيرَ الأرضُ الثكلى قزحاً من ألوانْ !
ما أجملَ أن تتراءى من نافذةِ الحزنِ البيضاءِ
جميلاً كالعصفورْ !
يا قمرَ النور أنرني ،
أنرِ العاشقَ بالنورْ !
أنرِ الأرضَ المظلمةَ العمياءْ
بفيضٍ من مرآكَ ،
ارفعها كالمتألمةِ العذراءِ
إلى ضوءِ سراجكَ لتراكَ ..
وتمسحَ بالكفّينِ مسيلَ الدمعِ الهاطلِ من ينبوعِ أساكْ !
أنرِ الأرضَ الموحشةَ ، القفراءَ
لتهدأ وحشتها تحتَ مراياكَ ،
ويسكتَ في الأفقِ المتعبّدِ
ناقوسُ الندمِ المكسورْ !
واروِ براريها العطشى بحليبِ الصبحِ
المتساقط من حلمات ِالكونِ النوراني
لتلقمَ كالزهراءِ فمَ العاشقِ ثديَ الأملِ الملآنْ !
ما أحزنها..
راقدةٌ في مهدِ الليلِ
ترتّلُ مرثيّتها الأبديّةِ جاثيةً في جذعِ مصلاّك !
.. واقفةً ..باكيةً ..
قدّامَ عذاباتِ المصلوبِ
ترائيها رؤيا مذهلةُ النورِ
فتصرخُ : ما أحلاكْ !
وبراحتها الزيتونيّةِ تلمسُ جرحَ المصلوبِ
فيرتعش الجرحُ
ويجري دمهُ الزاهرُ كالماءِ طهورْ
* * *
يا قديسَ الليلِ السهرانِ على جدولِ نورْ !
يا قمرا يتلألأ كالعنب الدامع تحت عرائشه البلّور !
رُشَّ على القلبِ الأعمى قطراتِ النورْ !